قبل بداية الثورة السورية ببضعة شهور، كتبت لي الإقامة لليلة يتيمة في أحد الفنادق التابعة لمؤسسة الجيش التي تمتلك سلسلة من النوادي الترفيهية والفنادق المخصصة للضباط والعسكريين السوريين . التجربة سوريالية بكل ما تعني الكلمة من معنى، بدءاً بطقوس الاستقبال القريبة من التحقيق الأمني، وصولاً لخدم الفندق الذين يرتدون اللباس العسكري. لكن الملفت في هذا "الفندق ـ الثكنة" هو العدد الهائل للصور والملصقات السياسية الموزعة في ممرات المكان ومرافقه، ففي كل مكان هنالك صور وتصاميم بعضها يعود إلى الحقبة الاشتراكية بطلها دوماً الرئيس أو والده القائد، أولاده الثلاثة، أخوه الشهيد، وأحياناً زوجته الأنيقة، وجميعها مذيلة بشعارات التبجيل والتعظيم والتقديس. فروض الاحترام في ذلك المكان تمنع الرواد من الظهور في أروقة الفندق بلباس البحر، ربما صوناً لحياء الرئيس. كل ذلك يمكن احتماله، لكن ما لا يحتمل هو وجود ملصق يحمل رسماً "للقائد الخالد" داخل غرفة النوم، فوق السرير مباشرة، حيث لا يمكنك حتى ممارسة الحلم دون رقابة "بطل التصحيح". هذه الحادثة ليست مقطعاً من رواية 1984 لجورج أورويل، بل هي واقع سوري بامتياز.
لا يقتصر حضور الملصق السياسي "البعثي" على هذا الفندق العسكري ، فجميع مؤسسات الدولة والأماكن العامة، تحتلها صور وتماثيل وملصقات تظهر تأييداً أعمى "للقائد"، ملصقات تضفي عليه صفات لا تعد ولا تحصى بدءاً من الجندي الأول وصولاً إلى مخترع الأبجدية. وكلها تجتمع على شيء واحد هو الرداءة الفنية والذوق الرث.
عندما اندلعت الانتفاضة السورية، كان اللافت أن أول ما تم تدميره وحرقه هو التماثيل والصور والملصقات الحزبية التي تمجد القائد الخالد وإنجازاته "الفذة" . وبمقابل هذا التدمير لمثل تلك الملصقات الرديئة ، سمحت الانتفاضة بظهور تيار جديد من الملصقات السياسية يعكس ببراعة توجهاتها ورسائلها، وساهمت هذه الملصقات بإعادة احتلال الشوارع بملصقات أخرى غير ملصقات "البعث".
بعض المجموعات المعنية بتصميم البوستر السياسي ساهم بتقديم ملصقات ذات طابع خبري إعلامي مثل تصاميم "فريق الملتيميديا" التابع للهيئة العامة للثورة السورية، وبعضها الآخر نحا نحو تقديم فكرة فريدة كما هو الحال في مبادرة "طوابع الثورة السورية" التي تقوم على إعادة إنتاج طوابع تحمل صور أحداث الإنتفاضة وشخصياتها المؤثرة. ومن بين هذه المجموعات تبرز مجموعة تطلق على نفسها اسم : الشعب السوري عارف طريقه. بدأت هذه المجموعة بإطلاق البوسترات المعبرة مع بدايات الربيع العربي في تونس ومصر، ثم كثفت نشاطها مع امتداد الثورة إلى سوريا، لتقدم اقتراحات خلاقة لبوسترات مضادة .
تتكون هذه المجموعة كما تعرف عن نفسها من حوالي 15 ناشطاً وناشطة، منتشرين داخل سوريا وفي الجولان المحتل ، وفي أوروبا وأمريكا. يتواصلون معاً عن طريق الإنترنت، وينفذون البوسترات بطريقة جماعية، لكن المفاجئ بالأمر أن هذه المجموعة لا تتضمن أي مصمم بصري (ديزاينر)، بل على العكس تتكون من مجموعة من الشباب ذوي خلفيات تعليمية متنوعة بدءاً من الفلسفة مروراً بالتجارة وصولاً للفنون الجميلة.
يقول أحد أفراد المجموعة، " بعضنا أصدقاء من قبل، لكن معظمنا نعرفنا على بعضنا البعض لاحقاً. كنا نود أن نقدم أي شيء من أجل الثورة، بدءنا ببعض العبارات وبعض لوحات الخط العربي (الكوليغرافي) ثم بالتدريج تطور الأمر."
تتميز بوسترات الشعب السوري عارف طريقه التي لاقت رواجاً كبيراً، بعناصر ملفتة كالفكرة البسيطة والجذابة، التي تحمل في طياتها حس التهكم في أحيان كثيرة، إضافة إلى التماسك الفني بين العناصر البصرية وبين حروف الخط العربي، فضلاً عن قوة اللون وطاقته التعبيرية. ومن الملاحظ أيضاً ارتباط هذه البوسترات بالأحداث التي تجري في الشارع السوري كتلك البوسترات التي تدعم العصيان المدني، أو ترفض الطائفية، أو تلك الخاصة بشهر رمضان (ثوروا تصحوا)، أو تلك التي تدعم حراك الجامعات (وقل ربي زدني ثورة) فضلاً عن حضور عنصر المرأة بشكل واضح في معظم التصاميم.
عن اختيار فن البوستر كطريقة تعبير توضح المجموعة أن السبب في ذلك يعود إلى الرغبة بإيجاد وسيلة تعبير تنسجم مع متطلبات الإعلام الجديد، وتلبي الحاجة لإيصال الأفكار بسرعة. يعلق أحد أفراد المجموعة على ذلك قائلاً: " لاحظنا أن جملة واحدة في تويتر كافية، تعليق صغير معبر في فيسبوك يحدث فرقاً، لذلك أردنا تقديم شيء يمتلك صفات الاختزال، التحريض، لفت الانتباه، المقولة المؤثرة، السرعة والفاعلية.. وجدنا كل ذلك في البوستر السياسي. بالإضافة إلى الرغبة من التخلص من إرث البوستر السياسي البعثي البشع".
كما تبدو معظم أعمال الشعب السوري عارف طريقه متأثرة بالفن العالمي كاستخدام اللوحات الانطباعية والتجريدية الشهيرة وكذلك بالفن السوري القديم، إضافة إلى التأثر بالمقولات والشعارات الإنسانية العالمية لشعراء كبودلير، فضلاً عن تأثر صريح بالبوسترات السياسية العالمية.
سبب هذا التأثير مرده إلى أمرين كما يوضح أحد أفراد المجموعة: " أولاً نحن لسنا مصممين بصريين محترفين، بعضنا يعرف من قبل مبادئ أولية في برامج التصميم (كالفوتوشوب) لكن معظمنا دفعته رغبته في تقديم شيء ما للثورة بتطوير مهاراته في التصميم، لا أخفيك تعلمنا عبر مشاهدة مقاطع فيديو على اليوتيوب، والإطلاع على تجارب وتصاميم مختلفة على الانترنت، لذلك هناك تأثير دائم من مختلف المشارب قد تجده في أعمالنا، من ناحية ثانية نحن ضد ثقافة الكوبي رايت، ونعتقد أن من حقنا استخدام المنتجات الفنية العالمية مثلاً وإعادة إنتاجها في أعمالنا، ونرجو من الجميع أن يفعل ذلك في البوسترات التي ننتجها نحن أيضاً".
تمر عملية تصميم البوستر السياسي، بعدة مراحل يشارك فيها الجميع، حيث يتم اقتراح الفكرة ومناقشتها من قبل الجميع، ثم يقوم المصممون باقتراح تنفيذ ما لهذه الفكرة، ويناقش التصميم ويتم اقتراح التعديلات هنا وهناك حتى يصل البوستر إلى مرحلته النهائية. وبالطبع تختلف البوسترات باختلاف الآراء، وقد لا تتفق الرؤى والاقتراحات دائماً كما يوضح أحد أفراد المجموعة كما أن البوستر يخضع لنقاش مكثف قبل إطلاقه على صفحة المجموعة على الفيسبوك. هناك تأخذ بعين الاعتبار كل التعليقات والرسائل والنصائح التي ترد على البوستر المنشور.
تجد بوسترات الشعب السوري" طريقها بسهولة إلى صفحات الانترنت، ويتم تداولها على نطاق واسع، كما أن كثيراً منها بات يرفع في مظاهرات الشارع، ولهذا السبب كما يوضح أحد أفراد المجموعة " قمنا في مرحلة من المراحل بتصميم مجموعة بوسترات بالأبيض والأسود بناء على طلب الناشطين لتخفيف كلفة الطباعة ".
بالطبع كجميع الناشطين في سوريا تعمل مجموعة الشعب السوري عارف طريقه بشكل سري تماماً، ويستخدمون لهذا السبب أسماءً مستعارة، خاصة أولئك الذين ينشطون في الداخل السوري، ورغم التهديدات التي تصلهم بشكل مستمر لازالت المجموعة مستمرة بتقديم المزيد من البوسترات السياسية التي وصل عددها منذ بداية الثورة حتى اليوم أكثر من 148 بوستر.
البوستر السياسي السوري الذي اقتصر خلال السنوات الأربعين الماضية على صور "القائد وأسرته" يبدو اليوم أمام انفتاح جديد لا يقل قيمة عن الفنون الأخرى التي بدأت بحق تجدد شبابها في اقتراحات جديدة، متحررة من موروث ضخم من الخوف والرعب والرقابة الأمنية. هنا حيث يتطلع السوريون إلى يوم تخلو فيه شوارع البلد من صور القائد وملصقات البعث السيء الذكر، يوم تتوقف سوريا عن أن تكون مزرعة كبيرة يملكها آل الأسد.